جسدت التغريبة الفلسطينية : الحاجة" يسرى" فقدت والدتها 30 عاما وماتت بعيدة عنها

 


جسدت المرحومة الفلسطينية الحاجة يسرى فايد، القضية الفلسطينية والتغريبة الحقيقية داخل الوطن الواحد، بعد فقدان والدتها 30 عاما، عاشتها بمرارة والم بحثا عن والدتها التى فقدتها ايام النكبة، بعد الهجوم الاسرائيلى على الفلسطينيين فى اراضيهم الاصلية وتهجيرهم للمناطق المجاورة، ووضع الحواجز بين المناطق وتقسيم فلسطين لعدة مناطق.

 

قصة حبكت خيوطها المعاناة الفلسطينية بين ام وابنتها قضيا حياتهم يبحثون عن بعضهم البعض ما بين قطاع غزة والضفة الغربية، واخرجت القصة سيدة ثالثة من فلسطينيي الداخل فى مشهد لم يمر فى التاريخ ولكن بامكانه ان يتكرر، فيما يعشيه الاف الفلسطينيين لم يلتقوا منذ سنوات باقاربهم نتيجة منع الاحتلال الاسرائيلى الحركة والتنقل ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة عبر معبر ايرز وهو الوحيد بينهما.

 

فكانت يسرى على فايد وحيدة اهلها فى عامها الثانى عشر بعد وفاة والدها، تتنقل فى معيشتها ما بين اعمامها فى يافا، ووالدتها بدرية الشيخ خليل فى الرملة بمنطقة جيمزو، والمتزوجة من ابو احمد الجيمزاوى.

 

وفى عام 1948 كانت بداية الحكاية لها وبداية التشرد لها ولكل الشعب الفلسطينى، بتهجيرهم من اراضيهم الاصلية وقتلهم بالطائرات والدبابات، وبدأت قصة النزوح للمناطق المجاورة والامنة جنوب فلسطين وشمالها، وكانت يسرى تقيم حينها مع اعمامها فهاجرت معهم الى قطاع غزة ومن ثم استقرت فى دير البلح، ومن هنا كانت بدأ الانقطاع بينها وبين والدتها التى بقيت مع زوجها فى الرملة ولم تغادرها، وتزوجت يسرى عام 1953.

 

وفى عام 1972 توفى جودة حسنين زوج يسرى وتركها وحيدة مع اطفالها، واضطرت حينها للعمل فى مصنع فيتا بتل ابيب يختص فى انتاج المعلبات لتربى وتعلم ابنائها، واستمرت بالعمل فيه حتى عام 1978، ومن هنا كان لها فصل جديد فى حياتها، وبدء الوصول لوالدتها بعد سنوات الفقدان الطويلة.

 

وتعرفت يسرى خلال عملها فى المصنع على ام محمود وهى فلسطينية الاصل وتقيم فى يافا ونسجت معها علاقة صداقة قوية، واكثر ما لفت ابنتاهها هو ارتداء ام محمود لثوب فلسطينى يدلل على انها من الرملة، وهو نفس الثوب الذى كانت تلبسه والدتها، وبعد جلسات طويلة بينهما عرفت ام محمود بقصة يسرى وفقدانها لوالدتها، ووعدتها ان تساعدها فى العثور على والدتها، وبدأت فى البحث عن السيد ابو احمد الجيمزاوى زوج والدة يسرى.

 

واستمرت ام محمود شهرين كاملين فى البحث عن ابو احمد الجيمزاوى، وتوصلت لمعلومة مفادها انه هاجر من جيمزو للرملة ومن ثم الى رام الله، كما توصلت لمعلومة تفيد ان ابو احمد توفى، فيما تقيم والدة يسرى مع ابنها فى مخيم الامعرى قضاء رام الله، وتمكنت من تحديد المنزل الذى تقيم فيه، عن طريق سائقها الخاص الموكل فى عملية البحث.

 

انسابت هذه الكلمات كالمطر الذى بلل عطش يسرى فى الوصول لمعلومة عن والدتها بعد سنوات طويلة من البحث ، وكانت فرحتها كبيرة كانها لم تسمع شئ من قبل فى حياتها يفرحها الا هذه الكلمات.

 

ومن هنا تم الاتفاق بين ام محمود والحاجة يسرى ان يلتقيا بعد انتهاء دوام يوم الجمعة، وتتوجه يسرى لمنزل ام محمود بدل العودة لمنزلها، وتنام فى بيتها ليتجهوا صباح يوم السبت لمخيم الامعرى والالتقاء بوالدتها.

 

كانت اللحظات سعيدة والخطوات سريعة فى ان يجرى الزمن لتصل لهذه اللحظة التى تشاهد والدتها امامها، وتعانقها وتنهى معاناتها التى استمرت طويلا، وحسرتها ببعد والدتها عنها، وبكائها سنوات طويلة حينما تشاهد الامهات يعانقن بناتهن، ويزرن بناتهم بعد الميلاد، ولم تترك لحظة فى حياتها الا وكانت تدعى فى صلاتها ان تلتقى يوما بوالدتها، وقد استجاب الله لدعائها.

 

واشترطت ام محمود على يسرى ان تلتزم الصمت خلال جلستها داخل المنزل، ولا تتحدث اوتعانق والدتها الا بعد السماح لها بذلك، وستدير ام محمود الحوار حتى نهايته بينهما، وكانت الموافقة جاهزة من يسرى.

 

وبدأت اللحظات السعيدة تقترب من يسرى صباح اليوم السبت بعد انطلاق السيارة باتجاه مخيم الامعرى وصولا لمنزل والدتها، وبعد طرق الباب خرج طفل صغير، استقبلهم داخل البيت لتضع يسرى اقدامها الا عتبات السعادة الحقيقة ومن ثم تلاها ام محمود والسائق.

 

استقبلهم شقيق يسرى وجلسوا الثلاثة بجانب بعضهم البعض على طاولة صغيرة دون ان يتعرفوا على بعضهم البعض، وجلس على الجهة المقابلة والدة يسرى وشقيقها وزوجته، فيما يغلى النار بداخلها تنتظر اذن ام محمود لتعانق والدتها وتقبل اقدامها.

 

وبعد مصافحة عادية بدأت ام محمود بادارة الحوار بينهما، وبدأته بمشاكل الحياة العادية، وتحدث الجميع فى حيثيات هذا الموضوع، الا يسرى التزمت الصمت حسب الاتفاق.

 

وبدأ الحديث يدخل فى خصوصيات والدة يسرى حينما سألتها ام محمود عن حقيقة ما سمعته عن فقدانها لابنتها عام 1948، فكانت اجابتها سريعة بانها مشتاقة جدا اليها وبحثت عنها كثيرا وتعيش حياتها على امل الالتقاء فيها، ولم تعلم ان الطاولة الصغيرة هى فقط من يفصلها عن ابنتها، وهنا بدأت يسرى التى تلتزم الصمت تحبس دموعها قهرا بانتظار اللحظة الحاسمة.

 

وبادرتها ام محمود بسؤال ثانى اكثر حساسية، لو شفتى بنتك بتعرفيها؟؟، وردت هنا بالنفى لغيابها سنوات طويلة عنها، والدليل هو جلوسها امامها لفترة طويلة دون التعرف عليها، وكان السؤال الثالث لها، بتعرفى الست اللى جاية معى؟؟؟، ردت هنا ايضا بالنفى ، ولكنها قالت الواضح انها من غزة لانها لابسة شاشة وداير ( وهو لبس تقليدى لسيدات قطاع غزة)، وعموما اهلا وسهلا فيها ضيفة هنا.

 

وهنا ادركت ام محمود  والدة يسرى ( ام حسنى) لم تتعرف على ابنتها، وبدأت برسم خيوط الفصل الاخير من هذه المعاناة، وبدأت بتوجيه الاسئلة ليسرى، ما هو اسمك؟؟ردت... يسرى على فايد، ولصدمة الموقف لم يثير هذا الاسم انتباه احد على الرغم انه زوجها السابق.

 

وسألتها السؤال الثانى، ما اسماء اعمامك ، فردت محمد ومحمود ومصطفى، وهم اسلاف والدتها، ورغم ذلك لم يحدث اى شئ حتى الان او يلفت انتباه والدتها، التى تجلس مصدومة فى حوار غريب ومفاجئ بين سيدتين حضرتا ضيفتين مع رجل.

 

وفى السؤال الثالث كانت نهاية رحلة المعاناة والمأساة التى عاشتها يسرى بعيدا عن والدتها، بعدما سألتها ام محمود عن اسم والدتها وخالاتها، فردت.. بدرية والدتى وخيرية وقدرية خالاتى.

 

وبمجرد ما انتهت من سرد اسماء خالاتها، قامت والدتها بازاحة الطاولة من امامها وعانقت ابنتها التى بحثت عنها سنوات طويلة، بصمت مطلق وبدون حوار او كلمات، فقط الدموع هى من كانت تعبر عما بداخلهم من اشتياق، وتوقف اللسان عن الكلام.

 

واضطرت هنا ام محمود للفصل بينهما لتعطى فرصة ليسرى لعناق شقيقها وزوجته، وبمجرد الانتهاء من عناقه عادت لتعانق والدتها،وكان الفصل بينهما مرة ثانية وثالثة، ونامت يسرى فى احضان والدتها ثلاثة ايام بدون تنازل طعام لشدة اشتياقها لها.

 

وانتهت بذلك معاناة يسرى الطويلة ، والتى لم تترك احدا من جيرانها واصدقائهم الا وحدثته قصتها املا فى الوصول لوالدتها، حتى ان ابنها عاطف جودة حسنين"50 عاما" ، قال ان والدته كانت توقظهم من النوم فى الصيف والشتاء لتحدثهم قصتها ومأساتها منذ ايام النكبة، وتوصيهم فى البحث عن والدتها.

 

وتوفيت الحاجة يسرى عام 2012 عن عمر يناهز 80 عاما، فيما توفيت والدتها بدرية خليل عام 1995، وماتت بعيدة عن ابنتها ولم تتمكن من وداعها.

 

وقال شقيق يسرى انه فى عام 1956 زار قطاع غزة بحثا عنها، حتى وصل منطقة المغازى وقام بسؤال رجل من عائلة اصلان وسط المخيم عن عائلة فايد، الا انه رد بالنفى، فى حين ان اقارب اخته يسرى على بعد 100 متر من محل اصلان، ولكن لسوء حظهما ان العائد هناك يطلق عليها قطوش ولكن اصلهم فايد، وأجلت هذه الاسماء لقاء الام بابنتها 30 عاما نتيجة اسماء العائلات والقابها.

 



loader
 
قـلوبنا معك غـزة