جسر الجواسيس.. المجد للأدوار الثانية

 

هل يتوفر للجاسوس محاكمة عادلة، يتساوى فيها مع أى مواطن آخر؟، أم أنه لا يمتلك هذا الحق، ومهما كانت محاكمته فهى مجرد إجراء روتينى للوصول إلى الحكم المنتظر ألا وهو الإعدام.

يعود "ستيفن سبيلبرج" للأفلام التاريخية بعد تقديمه لأفلام "لينكولن" ومن قبله "ميونيخ" و"قائمة شندلر" و"حصان الحرب"، ليختار هذه المرة فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة والشرقى بقيادة الاتحاد السوفييتى السابق، فى فيلمه الأخير "جسر الجواسيس 2015"، والذى شارك فى كتابة السيناريو له كل من: مات تشارمان، والأخوين كوين "إيثان وجويل كوين"، وقام ببطولته توم هانكس، والبريطانى مارك ريلانس.

 

منذ المشاهدة الأولى للفيلم، سيخطف الممثل "مارك ريلانس" والذى أدى دور الجاسوس السوفييتى "رودولف آبيل" الكاميرا، تاركا أثرا لدى المتفرج لن يذهب بسهولة، رغم المشاهد الفليلة التى ظهر فيها مقارنة بتوم هانكس مثلا، حيث قدم أداء مختلفا لرجل الجاسوسية، بداية من شكله الهادئ والذى تبدو عليه الطيبة، رجل كبير فى السن، نحيف، يستعمل طاقم أسنان ونظارة، يهوى الرسم وسماع الموسيقى، صورة تليق بموظف على المعاش يمضى فترة تقاعده فى سكينة مستمتعا بحياته فى حى بروكلين ينيويورك، وهى صورة مغايرة لشكل الجواسيس فى السينما، بفتوتهم وقدراتهم البارعة على أداء مشاهد الحركة.

 

يكمن تميز "ريلانس" فى تلقائيته، وقيامه بأداء الدور ببساطة، يمكن القول أنه "لا يمثل. لكنه يمارس حياته العادية"، هذا هو الوصف الذى ينطبق عليه، لن يمنحك إحساسا بأنه يؤدى دورا أمام الكاميرا، حيث يؤدى مشاهده بلا تكلف أو تزيد، محافظا على إيقاع الشخصية بنفس الوتيرة، وحريصا على تقديم تفاصيل شخصية صغيرة، ربما تبدو غير مهمة لكنها فى النهاية ستمنحه ذلك الاختلاف الذى يميزه عن الآخرين، مثل حركة أنفه المتكررة وكأنه مصاب بزكام مزمن، أو نظراته وتعبيرات وجهه اللامبالية التى يستقبل بها أخبار وتطورات محاكمته، أو حتى لحظة القبض عليه من قبل عملاء جهاز المخابرات الأمريكية، وكأنه كان ينتظر قدومهم إليه، ليقول لهم كلمة واحدة "زوار؟"، مستجيبا لكل ما يطلب منه دون مقاومة، أو لكنته الإنجليزية التى تكشف أنه ليس أمريكيا، هذا الهدوء الذى يستقبل به الأمور استفز محاميه "جيمس دونوفان" والذى أدى دوره "توم هانكس"، ليقول له "ألست قلقا من إعدامك؟". ليجيبه بهدوء أكثر "هل سيحدث ذلك فرقا"، بالتأكيد لن يسبب القلق أو التوتر فرقا فى تنفيذ أو عدم تنفيذ حكم الإعدام، لذا استحق "مارك ريلانس" الحصول على جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد فى الدورة الـ88 للجائزة عام 2016. وهى الجائزة الوحيدة التى حصل عليها الفيلم من 5 جوائز كان مرشحا لها.

 

"آيبل" ليس جاسوسا عاديا، مثل الآخرين الذين قبضت عليهم المخابرات الأمريكية، بداخله يوجد جزء آخر لا ينتمى إلى هذا العالم بكل أسراره وقسوته، وهو الجزء الفنى، إنه رسام ومحب للموسيقى، كما أن زوجته رسامة أيضا، هذا التلاقى الفريد بين الفن والإبداع وعالم الجاسوسية والحروب، يبدو وكأنه متناقض، لكن قليل من التفكير سيكشف أنهما متسقان مع بعضهما، الشخصية المركبة التى تحمل النقيضين، رقة الموسيقى مع ظلام الجاسوسية، إنه الإنسان المعاصر الذى يشعل الحروب ثم يبنى الأوبرا بعدها، كما يؤمن "آيبل" بداخله أنه يؤدى دورا فى حماية عالمه، فيمارس "الجاسوسية" وكأنه يقوم بوظيفة محببة إلى نفسه، أو عملا كان يرغب فى أن يتم تكليفه به، فالعالم لن يكون كاملا بشكله الحالى بدون وجود جاسوس لدى الطرف الآخر، لذا يقول لمحاميه "بالتأكيد، بلادك لديها شخص مثلى يؤدى مهمته أيضا".

 

"العدالة الأمريكية" أصدرت حكمها على الجاسوس السوفييتى من قبل أن تبدأ المحاكمة، كان حكم الإدانة جاهزا للتوقيع، فقط ينتظر محاكمة شكلية أمام العالم لنطق حكم الإعدام، كما أن الحكومة والإعلام قاما بدورهما فى شيطنة "آيبل"، حتى أصبح نطق الحكم هو مجرد تحصيل حاصل، لكن المحامى "جيمس" لا يتعامل بهذا المنطق، إنه يدافع عن الدستور بغض النظر ما إذا كان المتهم جاسوسا للعدو أو متهما فى قضية عادية، باعتبار أن الدستور هو الذى يمنح صفة "الأمريكى" لكل الموجودين على تلك الأرض، الذين أتوا من كل بلدان العالم، فما يوحدهم ويجعلهم مواطنين أمريكيين هو الدستور، الذى يجب الدفاع عنه لآخر نفس، وهى رؤية مثالية ينتصر لها صناع الفيلم، ويتبناها المحامى الذى تم اختياره للدفاع عن الجاسوس، فى مواجهة رؤية مضادة يتبناها جهاز المخابرات والإعلام، والرأى العام الذى بات مشحونا تجاه أى شئ يتعلق بالسوفييت والشيوعية، وكذلك وزارة العدل التى أعلن قاضى المحكمة بوضوح أن دورها يتمثل فقط فى "خدمة مصلحة الولايات المتحدة"، والمصلحة هنا تقضى بإعدام الجاسوس.

 

سيناريو الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية للمحامى "جيمس دونوفان" المقرب من المخابرات الأمريكية، والذى قام بالعديد من عمليات تبادل الجواسيس، ومن ضمنها إجراء مفاوضات مع فيدل كاسترو للإفراج عن عملاء معركة خليج الخنازير الفاشلة فى كوبا، ومؤخرا كشفت المخابرات الأمريكية النقاب عن محاولتها لاغتيال كاسترو، حيث استغلت "دونوفان" وأعطته بدلة غوص معالجة خصيصا لإصابة مرتديها بمرض قاتل، ليقوم بدوره بإهدائها لكاسترو، وهى العملية التى فشلت نظرا لأنه لم يلبسها أثناء ممارسته رياضة الغوص، لكن السيناريو لم يقدم محامى التأمينات "دونوفان" باعتباره مقربا أو "عميلا" لـ"سى أى إيه"، بل قدمه بشكل مثالى، يسير وراء العدالة وخدمة الأخرين، وهو ما وضح فى إصراره المستميت على إدخال طالب الاقتصاد الأمريكى ضمن عملية مبادلة الجواسيس، رغم ان المخابرات لم تكن تريده، على الأقل فى الوقت الحالى، لأنها كانت تريد الطيار الأمريكى الذى قبض عليه السوفييت قبل أن ينهار امام التعذيب ويبوح لهم بما معه من أسرار.

 

الحرب الباردة ألقت بظلالها على العالم فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الخوف يحوم فوق رؤوس الناس، ونشأ هوس بناء الملاجئ للتحصن بها فى حال نشوب حرب نووية، وهو ما ظهر تأثيره فى كثير من الأعمال الفنية، فى الرواية والموسيقى والسينما، حتى أن المدارس الأمريكية كانت تعرض لتلاميذها تأثير القنبلة النووية وتداعياتها مقدمة النصائح لتلافى آثارها التدميرية، وهو ما دعا أسرة المحامى "دونوفان" إلى مطالبته بترك القضية، لأنه يدافع عن الذين يريدون تفجير ودمار أمريكا، لكنه يصر على احترام القانون، فالقانون من وجهة نظره هو الوسيلة الوحيدة للعدالة بين البشر، وللحفاظ على إنسانيتهم أيضا، فى مواجهة الدعاوى والمطالب المتصاعدة بإعدام الجاسوس، لذلك يقول لضابط الشرطة الذى جاء للتحقيق فى اعتداء متطرفين على منزله "مارس وظيفتك القانونية أيها الضابط"، حينما استنكر قيامه بالدفاع عمن يريد دمار البلاد، فوظيفة الضابط هى البحث عن المتورطين لا عن إصدار أحكام على الآخرين.

 

 

عندما يجتمع ستيفن سبيلبرج والأخوان كوين فى فيلم واحد، فلابد من أن تكون بصماتهم واضحة، وهو ما ظهر فى "جسر الجواسيس"، حيث تم تقديم فيلم يروح كلاسيكية، فى تقديم القصة وتطور الأحداث والتشويق، كما برزت بصماتهم فى "القطعات المونتاجية" التى تخللت الكثير من مشاهد الفيلم، حيث كان يتم الانتقال من مشهد إلى مشهد آخر مغاير، وكأنهما مشهدا واحدا، فمثلا فى مشهد المحاكمة يصيح الحاجب فى الجلوس بالوقوف إيذانا بدخول القاضى، لتنقل الكاميرا إلى تلاميذ مدرسة وهم وقوف فى الفصل يؤدون القسم الأمريكى "أقسم بالولاء لعَلم الولايات المتّحدّة الأمريكية، وللجمهورية التىي يمثلها، أمة واحدة أمام الرب، غير قابلة للتجزئة، مع الحرية والعدالة للجميع"، فى تناقض واضح لما يتم فى كواليس المحاكمة، فالحرية والعدالة ليست للجميع طبعا، وفى مشهد آخر تقترب الكاميرا من قمة مظلة الطيار الأمريكى الذى تم إسقاط طائرته فوق الأراضى السوفيتية، ثم تبتعد الكاميرا لنرى أنها عبارة عن مروحة دائرة فى مكتب فى مشهد آخر.

 

 

الموسيقى التصويرية التى وضعها توماس نيومان، ظهرت بشكل أكثر وضوحا فى الجزء الثانى من الفيلم، خصوصا فى مشهد جسر "جلينيك" الذى تم اختياره كنقطة لتبادل الجواسيس بين الأمريكان والسوفييت، وهى لحظات يشوبها القلق والتوتر، فأقل خطا أو سوء تفاهم من الممكن أن ينسف عملية التبادل بأكملها، لتأتى الموسيقى فى تلك اللحظات معبرة عن هذا القلق، الذى يدور بداخل المحامى، فى انتظاره لعملية تبادل أخرى تتم فى أحد نقاط المعابر عند جدار برلين، يتم من خلالها تسليم طالب اقتصاد أمريكى قبضت عليه سلطات ألمانيا الشرقية، فى الوقت الذى يقوم فيه بعملية تبادل الجاسوس السوفييتى بالطيار الأمريكى.

أفيشات الفيلم لم تكن مميزة من الناحية الفنية، فلا يوجد بها إبهار أو اختلاف، مجرد أفيش "عادى"، يحتل فيه وجه توم هانكس الصدارة، مع وجود العلمين الأمريكى والسوفييتى فى الخلفية، أو مشهد صغير لجسر تبادل الجواسيس، أو جدار برلين.

 



loader
 
قـلوبنا معك غـزة