الشخصية الحدية.. سماتها وعلاجها

 

 

 

أحيانا كثيرة نواجه أشخاصا متذبذبين في مشاعرهم وتصرفاتهم، فتارة هم ودودون وطيبون مع شخص ما إلى درجة أنهم يعتبرونه مثالا وقدوة، وفجأة - يكفي مثلا ألا يرد على مكالمة تلفونية - يتحول إلى عدو ويحاولون إيذاءه بالكلام السيئ ويشعرون برغبة في التقليل من قيمته بشتى السبل وينكمشون على أنفسهم، وأحيانا أخرى يتحولون إلى عدائيين ومندفعين، بل يصلون إلى حد الاكتئاب والإقدام على الانتحار والقيام بأشياء قد تؤذيهم أو تؤذي غيرهم.


هذا النوع من الشخصية يسمى الشخصية الحدية Borderline، وهي شخصية تتمركز بين الذهان والعصاب، تعاني يوميا من فرط انفعاليتها لدرجة تجعل من الصعب التنبؤ بردود أفعال أصحابها، ويشعر المريض باستمرار بعدم الأمان الداخلي، ويضع محيطه دائما في مجال اختبار، ومن بين وسائل دفاعه التصرف باندفاعية كوسيلة لتفريغ المشاعر والإفراج العاطفي.


وتُبين المنظمة العالمية للصحة أن قرابة 2% من سكان العالم يعانون من هذا الاضطراب النفسي وخاصة النساء اللواتي يشكلن حوالي ثلاث حالات إصابة من بين كل أربع حالات.
ويعرف دليل التشخيص والإحصاء للاضطرابات العقلية الاصدار الرابع DSM-IV هذه الشخصية على أنها تشكل نمطا منتشرا من عدم الثبات في العلاقات الشخصية المتبادلة وصورة الذات والوجدان مع اندفاعية واضحة، واضطراب الهوية، وعدم الاستقرار في العلاقات مع الآخرين، حيث يمكن أن تتأرجح هذه العلاقات بين المثالية المطلقة إلى التحقير المسرف لنفس الشخص، فضلا عن الشعور المزمن بالفراغ ونوبات غضب شديدة، واستياء متكرر، والشعور بالإحباط والاكتئاب، وحالات كرب متكررة ناجمة عن شعور الشخص بالاضطهاد.


هؤلاء الأشخاص يميلون لكل ما هو حدي مثل: إنفاق المال بشكل مسرف، والاندفاع الجنسي، وتعاطي المخدرات، أو أي نوع مهلوس، والتدخين المسرف، وسياقة السيارة بشكل متهور والشره في الطعام.


الشخص المصاب هو دائم الشعور بأنه شخص مهدد من قبل الآخرين، بالانتقاص وسوء المعاملة، فيكفي أن يقابل ببعض الرفض أو بعدم اهتمام الطرف الآخر ليتحول من شخص مثالي رائع في نظره إلى عدو يسعى للانتقام منه، ولا يمكنه تقبل أن يترك من قبل الآخر، وحينما يرى في الآخر شخصا مثاليا فإنه يسعى إلى أن يرافقه دائما ويجعل منه محور حياته، بل يمكنه أن يتصل به عشرات أو حتى مئات المرات يوميا ويبعث له رسائل متلاحقة، والكثير من الأشخاص الذين يعانون من هذا الأمر يتسببون أحيانا في شعور الآخر بالاختناق والحنق لشدة ملاحقتهم له، وما أن يبدي تذمرا ولو بسيطا من تصرفاتهم أو حتى لا يرد على مكالمتهم حتى يشعرون إما بالعداء نحوه، أو الاكتئاب، أو بالفراغ لدرجة تشعرهم بعدم الرغبة في الحياة، ولذلك تجدهم يهددون بصفة متكررة بالانتحار، أو يوحون بأنهم سيؤذون أنفسهم وقد يؤذون أنفسهم فعلا ويشوهون أجسادهم وقد لا يكون ذلك للانتحار الفعلي، وإنما فقط لإثارة الانتباه، فهم دائمو المواظبة على جعل الآخر يعتقد أنهم سيتخلصون من حياتهم في كل لحظة.


كما أسلفنا فإنه من الصعب جدا التنبؤ بردة فعل صاحب الشخصية الحدية، فتارة يبدو هادئا وساذجا مثل الطفل، وفجأة يتحول إلى شخص عنيف تتملكه ثورة الغضب، وتشكل سلوكياته نوعا من الخطر، ويبدي أفكارا انتحارية عند أول مضايقة يتعرض لها، ولذلك قال الأخصائي النفسي «ألان توغتوزا»: إن المصابين بهذا المرض هم بمثابة طنجرة ضغط مستعدة للانفجار في أية لحظة.


ويقول أيضا: إنه من الصعب التعرف بشكل مضبوط على الشخصية الحدية خاصة أن هذا الاضطراب يكون مصحوبا أكثر باضطرابات نفسية أخرى مثل التبعية العاطفية، إلا أن هناك أعراض مشتركة عند الذين يشتكون من هذا الاضطراب النفسي وأهمها:


- الشعور المزمن بالفراغ والخواء.

- صعوبة السيطرة على ثورة الغضب.
- انخفاض مستوى القدرة على التنبؤ بنتائج ردة الفعل لديه.
- اضطراب الهوية، المسائلة الدائمة للذات وصعوبة تحليل ما يشعر به.
- الميل نحو تمجيد الآخر وجعله مثالا عظيما وتحقيره والحط من قدره أيضا.
- اضطراب العلاقات مع الأشخاص بحيث يتغير سلوكه فجأة مع أصدقائه ويسعى للتلاعب بمشاعرهم.
- يشعر بخوف دائم وكبير من تخلي الآخر عنه والبعد والفراق.
- يشعر دائما بأنه يتعرض لمؤامرة.
- تكون لديه أفكار هدامة مثل إيذاء وتشويه الذات والانتحار.
- يصاب بنوبات سلوكية مثل الشره المرضي في الأكل bulimia، الرغبة في الكحول أو المخدرات.


كما أن أسباب اضطراب الشخصية الحدية متعددة أيضا، ومن بينها عوامل بيولوجية وكيميائية مثل: خلل في إنتاج هرمون السيروتونين، واستعدادات وراثية أيضا، إلا أن هذا المرض النفسي يظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص الذين تعرضوا لاعتداءات سابقة، أو نقص عاطفي، أو انفصال صعب في طفولتهم، مما يحيل على نظرية قلق فقدان الموضوع والتي تجعل الشخص يشعر باستمرار بانعدام الأمن النفسي، ويضع على الدوام المحيطين به في محط اختبار، وتكون ردة فعله اندفاعية وعنيفة تصل إلى إيذاء وتشويه الذات والانتحار، بحيث إن الإحصائيات تبين أن 8 إلى 10 % من المصابين بهذا الاضطراب يقدمون على الانتحار.


أما علاج هذا النوع من الأمراض أو الاضطرابات النفسية فلا ينفع فقط بواسطة العقاقير، إذ إن هناك دراسة لمجلة «كوشران» أبانت أنه لا يوجد دواء أو عقار يؤثر بشكل واضح على المصابين بالشخصية الحدية.


وهناك العديد من الطرق لمساعدة هؤلاء الأشخاص منها: التحليل النفسي الذي يعتمد تقنية كان يستعملها فرويد والعديد بعده، استمدت من تقنية talking cure لجوزيف بروور ، وهي تقنية تعتمد أساسا على التداعي الحر، حيث يقوم المريض بالكلام ويشكل حديثه هيكلة لحياته النفسية؛ فيكتشف المحلل صراعات اللا شعور التي كانت وراء اضطراب شخصية المريض.


أما أحدث التقنيات العلاجية فهي العلاج السلوكي الجدلي Dialectical Behavior Therapy، وبدأت منذ سنة 1980م من قبل البروفيسور «مارشا لينهان» في سياتل، وهي مؤلفة كتاب «وصف العلاج المرافق بدليل للتدريب على مهارات العلاج السلوكي الجدلي»، وهذا النوع من العلاج يساعد على إجلاء بعض اضطرابات هذه الحالة المرضية مثل: الاكتئاب ثنائي القطب، والقلق، واضطرابات الأكل المرافقة، وإيذاء الذات، وتعاطي المخدرات، والعلاقات الانفعالية السلبية تجاه الآخرين، وغيرها من الأعراض التي يعاني منها ذوو الشخصية الحدية. ولذلك يعتبر العلاج السلوكي الجدلي الأنجع إلى الآن في معالجة هذا المرض النفسي.

إلا أن هناك أساليب أخرى أيضا تستعمل لعلاج هذا النوع من الاضطراب مثل: العلاج النفسي الفردي، والتثقيف النفسي الإرشادي، وعلاج الأزواج، وطبعا العلاج بالعقاقير.



loader
 
قـلوبنا معك غـزة